المدوّنة

العودة الى القائمة

تسجيل المفاجآت

19 مارس 2013

يشكل التشويق الذي نشعر به جراء تجربة فيلم روائي جيدة أساساً للثقافة والتاريخ الإنساني. بالطبع، هناك آلاف الأمثلة على هذا الأمر في السينما، ابتداءً من الكلاسيكات الشعبية إلى أفلام الموسيقى الساحرة وأفلام الخيال العلمي وأفلام الرعب القديمة المنسية. نحن البشر مكيفون للإستجابة بترقب إلى الأفلام الروائية المألوفة وإلى مشاهدها التي تزخر لقاءات الفتيان مع البنات أو مواجهة للمخلوقات الفضائية، ونجد متعة كبيرة عندما تكون النهاية سعيدة (البنات تستغفل الفتيان للإرتقاء بمهنتها، المرأة تفوق المخلوق الفضائي ذكاءً .. أو هكذا تعتقد) قبل نهاية الفيلم.

لكن الأفلام الوثائقية لا تستخدم النمط والأسلوب نفسه، فهي تشبع رغبة المشاهدين بطريقة مختلفة.

لطالما اعتبرت الأفلام الوثائقية عميقة منذ اعتماد السينما مادة أكاديمة. هناك فكرة عامة بأن الأفلام الوثائقية تقدم حقائق ووقائع، لكن الدرس الأول هو في الحقيقة أن العناصر التي تشكل الفيلم الوثائقي يتم التلاعب بها أيضاً من قبل صانعي الأفلام ليقدموا قصة مركبة بعناية. لا يتسع المجال هنا للغوص في تفاصيل صناعة الأفلام الوثائقية من وجهة نظر الأنثروبولوجيا الثقافية – الفكرة بأن تشغيل كاميرا أمام مادة معينة يغير مباشرة الشخص بحيث تلتقطه الكاميرا بطريقة غير طبيعية إلى حد ما. (فكروا بتلفزيون الواقع – الكاميرات تعمل والأشخاص يعرفون أن الكاميرات تعمل، وبغض النظر عن مدى طبيعة التصرف، لكنه إلى حد ما تمثيل).

ضع كل هذا التفكير القيم في خلفية تفكيرك، وللحظة دعنا ننظر في هذه المقارنة البسيطة بين صناعة الأفلام الوثائقية والروائية. في الفيلم الروائي، يسيطر صانعو الفيلم أكثر او أقل على القصة التي يخبرونها. (هناك تدرج في هذا الأمر، من أفلام ألفرد هيتشكوك التي تظهر بدقة على الشاشة وفق السيناريو ولوحة القصة المعدة، إلى الإنتاجات الهزيلة حيث الإرتجال خلال صناعة الفيلم يأخذ الفكرة إلى اتجاهات غير متوقعة.). في بعض الأفلام الوثائقية، في المقابل، يتحكم صانع الفيلم بالنتيجة النهائية لكنه لا يملك السيطرة والتحكم بالمحتوى الذي يجمعه.

متى يمكن ان تكون هذه الفكرة الضيقة صحيحة؟

تذكر أوقات الظهيرة أيام السبت خلال مشاهدة الأفلام الوثائقية عن الحياة البرية في السهول على قناة “ناشيونال جيوغرافيك“؟ ربما تكون مهتماً في التفاصيل البيولوجية للأسد والحمار الوحشي والجواميس البرية والضباع، وربما لا. مهما يكن، الأمر الأكثر إثارة بكل تأكيد هو اللحظات غير المتوقعة: لسوء الحظ – وانا اعترف– إن الأوقات التي صدمتني هي غالباً لمشاهد الحيوانات المفترسة وهي تطارد حيوانات أصغر وأضعف منها وتقتلها. هذا النوع من إشباع المشاهد من خلال المفاجآت يتوارث في الأفلام الوثائقية وليس أمراَ من الماضي الكلاسيكي، ولم يتم إلغاؤه نهائياً في الأعوام الأخيرة حتى بعد البث المباشر والمتعة المباشرة التي نحصل عليها من المعاناة والتجاوزات في أفلام الواقع. بالنظر إلى الشعبية الغامرة لسلسلة “كوكب الأرض” الأخيرة (2006)، قامت ناشيونال جيوغرافيك بتحديث تكنولوجيا أفضل ومناطق من الصعب تخليها.

وباعتبار أن المفاجآت في الأفلام الوثائقية تؤدي إلى هزة خاصة من المتعة السينمائية، ربما من غير المفاجىء بأن بعض الأفلام الوثائقية المحببة والأكثر إثارة للنقاش، هي تلك التي يتبع فيها صانع الفيلم مواضيع إنسانية على مدى فترة طويلة من الوقت. في النهاية، نحن لا نعرف أبداً ماذا سيجري في الحياة الواقعية، فهناك الصعاب والمتعة غير المتوقعة في كل أمر.

تكثر الأمثلة في هذا الإطار. هناك “سلسلة أب” لمايكل أبتد في عام 2012 التي تواصل تقديم المجموعة نفسها من البريطانيين منذ أكثر من خمسين عاماً عندما كانوا في عمر السابعة. وتواصل السلسة عرض حالة هؤلاء كل سبعة اعوام حيث نتابع ماذا يفعلون، من أصبح غنياً، ومن أصابه الجنون، من يعيش بسعادة ومن هو الحزين، ومن الذي توفي ودفن. إنه يشبه تماماً زيارة أصدقاء قدامى.

وكذلك تبع ألبرت وديفيد مايزلز فرقة رولينغ ستون في جولتها في 1969، حيث صنعا فيلم “أعطني ملجأ” (1970)، وهو فيلم اكتسب شهرته ليس من خلال عرضه للحفلات الموسيقية للفرقة بل عندما قتل حارس الأمن من فرقة هيلز انجلز شاباً جامحاً ومسلحاً معجباً بالفرقة خلال محاوته الصعود إلى المسرح. احتفل المايزلز أيضاً بفيلم “الحدائق الرمادية” الذي يعرض حياة الثنائي المجنون: الراحلة إيدث يوينغ بوفييه بيل عمة السيدة الاميركية الأولى السابقة جاكلين كينيدي اوناسيس وابنتها ادي وهي ابنة عم السيدة الأولى، اللتان تعيشان في قصر الباليه في الحي الشمالي الراقي لمدنية نيويورك.

مؤخراً، بحثت المخرجة لوسي والكر (2002) في فيلمها “ملعب الشيطان” في موضوع “رومسبرينغا“، وهي الفترة التي سمح فيها للمراهقين الأميش بتجربة العالم خارج حدود مجتمعهم الديني. والنتيجة؟ مخدرات، جنس، ورك اند رول – تهور غير متوقع صادم ومحبط. اما الفيلم الذي يبقى عالقاً في ذاكرتنا هو فيلم العام الماضي “ملكة فرساي” للمخرجة لورين غرينفيلد. يبدأ الفيلم باختبارات عن الحلم الاميركي ويتحول إلى دراسة لعائلة تمر في أزمة. يعتبر الفيلم من قبل البعض “تحقيق المتعة من ألم الآخرين“، بينما يعتبره آخرون فيلماً يتعاطف مع قصور الرأسمالية، لكنه في النهاية يأسرنا جميعاُ من خلال تبخر ملايين وملايين الدولارات.

هذه اللحظات في هذا النوع من الأفلام الوثائقية يتيح لنا رؤية عالم غير مألوف بالنسبة لنا، ولكننا ننتمي إليه. فهي تدفعنا إلى استكشاف العديد من الأسئلة حول “ماذا إذا“؟ ماذا إذا كان لدي مالاً أكثر من الذي أعرف ما الذي سأفعل به؟ ماذا إذا أزيلت كافة القواعد التي تحكم حياتي اليومية؟ ماذا إذا أصبحت مجنوناً قليلاً؟ في أيدي صانعي أفلام موهوبين، ممن خضعوا لهذا الإستكشاف، يخبرونا بعض ما لا نعرفه عن عالمنا، وعن انفسنا أيضاً. نعم، بالعودة إلى أساسيات الفيلم الوثائقي، فصانعو الأفلام الوثائقية يحولون هذه المواهب لاختيار العناصر التي تخلق أفضل القصص. لكنها اللحظات غير المتوقعة التي تزهر والتي يمكنها ان ترينا جميعاً من نحن في الحقيقة.

blog comments powered by Disqus